سورة الأحقاف - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحقاف)


        


ثم خوف كفار مكة فقال عز وجل {ولقد مكَّنّاهم فيما إِنْ مكَّنّاكم فيه} في إِنْ قولان:
أحدهما: أنها بمعنى لَمْ، فتقديره: فيما لم نمكِّنْكم فيه، قاله ابن عباس، وابن قتيبة. وقال الفراء: هي بمنزلة ما في الجحد، فتقديره: الكلام: في الذي لم نمكِّنْكم فيه.
والثاني: أنها زائدة؛ والمعنى فيما مكَّنّاكم فيه، وحكاه ابن قتيبة أيضاً.
ثم أخبر أنه جعل لهم آلات الفهم، فلم يتدبَّروا بها، ولم يتفكّروا فيما يدلُّهم على التوحيد. قال المفسرون: والمراد بالأفئدة: القلوب؛ وهذه الآلات لم ترُدَّ عنهم عذابَ الله.
ثم زاد كفَّارَ مكة في التخويف فقال: {ولقد أهْلَكْنا ما حولَكم من القُرى} كديار عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم من الأُمم المُهْلَكة {وصرَّفْنا الآياتِ} أي: بيَّنّاها {لعلَّهم} يعني أهل القُرى {يَرجِعونَ} عن كفرهم. وهاهنا محذوف، تقديره: فما رَجَعوا عن كفرهم.
{فلولا} أي: فهلاّ {نَصَرَهم} أي: منعهم من عذاب الله {الذين اتَّخَذوا مِنْ دون اللهُ قرباناً آلهةً}؟! يعني الأصنام التي تقرَّبوا بعبادتها إِلى الله على زعمهم؛ وهذا استفهام إِنكار معناه: لم ينصروهم {بل ضَلُّوا عنهم} أي: لم ينفعوهم عند نزول العذاب {وذلك} يعني دعاءَهم الآلهةَ {إِفكُهم} أي: كذبهم. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن يعمر، وأبو عمران: {وذلك أفَّكَهم} بفتح الهمزة وقصرها وفتح الفاء وتشديدها ونصب الكاف. وقرأ أًبيُّ بن كعب، وابن عباس، وأبو رزين، والشعبي، وأبو العالية، والجحدري: {أفَكَهم} بفتح الهمزة وقصرها ونصب الكاف والفاء وتخفيفها. قال ابن جرير: أي أضلَّهم. وقال الزجاج: معناها: صَرَفهم عن الحق فجعلهم ضُلاّلاً. وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل: {آفِكُهم} بفتح الهمزة ومدِّها وكسر الفاء وتخفيفها ورفع الكاف، أي مُضِلُّهم.


قوله تعالى: {وإِذ صَرَفْنا إِليك نَفَراً من الجِنِّ} وبَّخ اللهُ عز وجل بهذه الآية كُفّارَ قريش بما آمنتْ به الجِنُّ. وفي سبب صرفهم إِلى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم صُرِفوا إِليه بسبب ما حدث من رجمهم بالشُّهُب. روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس قال: انطلَق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إِلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسلتْ عليهم الشُّهُب، فرجعت الشياطين فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حِيل بيننا وبين خبر السماء، وأُرسلْت علينا الشُّهُب، قالوا: ما ذاك إِلاّ من شيءٍ حدث، فاضرِبوا مشارق الأرض ومغاربَها فانظروا ما هذا الأمر. فمرَّ النَّفرُ الذين توجَّهوا نحو تِهامة بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ب نَخْلةَ وهو يصلِّي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمَّعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجَعوا إِلى قومهم فقالوا: {إِنّا سَمِعْنا قرآناً عَجَباً يَهدي إِلى الرُّشْد} [الجن: 1 2] فأنزل اللهُ على نبيِّه {قُلْ أُوحِيَ إِليَّ أنه استَمَعَ نَفَرٌ من الجِنِّ} [الجن: 1] وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الجن، ولا رآهم، وإِنما أتَوْه وهو ب نخلة فسمعوا القرآن.
والثاني: أنهم صُرِفوا إِليه لِيُنْذِرهم، وأمر أن يقرأ عليهم القرآن، هذا مذهب جماعة، منهم قتادة. وفي أفراد مسلم من حديث علقمة قال: قلت لعبد الله: «من كان منكم مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ الجن؟ فقال: ما كان منَّا معه أحد. فقدْناه ذاتَ ليلة ونحن بمكة، فقلنا: اغتيل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أو استُطير، فانطلقْنا نطلبه في الشِّعاب، فلقِيناهُ مُقْبِلاً من نحو حِراء، فقلنا: يا رسول الله، أين كنتَ؟ لقد أشفقنا عليك، وقلنا له: بِتْنا الليلةَ بِشَرِّ ليلةٍ بات بها قوم حين فَقَدْناكَ، فقال: إِنه أتاني داعي الجن، فذهبت أُقْرِئهم القرآن فذهبَ بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم» وقال قتادة: ذُكِر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنِّي أُمِرْتُ أن أقرأ على الجن، فأيُّكم يَتبعُني؟ فاطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثةَ فأطرقوا، فأتبعه عبد الله بن مسعود، فدخل نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم شِعْباً يقال له: شِعْبُ الحَجون، وخطَّ على عبد الله خطّاً ليُثبته به، قال: فسمعت لغطاً شديداً حتى خِفْتُ على نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم فلمّا رجَع قلت: يا نبي الله ما اللغط الذي سمعتُ، قال: اجتَمعوا إِليَّ في قتيل كان بينهم، فقضيت بينهم بالحق».
والثالث: أنهم مَرُّوا به وهو يقرأ، فسمعوا القرآن. فذكر بعض المفسرين أنه لمّا يئس من أهل مكة أن يجيبوه، خرج إِلى الطائف ليدعوَهم إِلى الإِسلام وقيل: ليلتمس نصرهم وذلك بعد موت أبي طالب، فلمّا كان ببطن نخلة قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر، فمرَّ به نفرٌ من أشراف جِنِّ نصيبين فاستمعوا القرآن. فعلى هذا القول والقول الأول، لم يعلم بحضورهم حتى أخبره الله تعالى؛ وعلى القول الثاني، عَلِمَ بهم حين جاءوا. وفي المكان الذي سمِعوا فيه تلاوةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قولان:
أحدهما: الحَجون، وقد ذكرناه عن ابن مسعود، وبه قال قتادة.
والثاني: بطن نخلة، وقد ذكرناه عن ابن عباس، وبه قال مجاهد.
وأما النَّفَر، فقال ابن قتيبة: يقال: إِنَّ النَّفَر ما بين الثلاثة إِلى العشرة. وللمفسرين في عدد هؤلاء النَّفَر ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم كانوا سبعة، قاله ابن مسعود، وزِرُّ بن حبيش، ومجاهد، ورواه عكرمة عن ابن عباس:
والثاني: تسعةً، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: اثني عشر ألفاً، روي عن عكرمة. ولا يصح، لأن النَّفَر لا يُطلَق على الكثير.
قوله تعالى: {فلمّا حَضَروه} أي: حضروا استماعه و{قُضِيَ} يعني: فُرِغَ من تلاوته {ولَّوا إِلى قومهم مُنْذِرِينَ} أي: محذِّرين عذاب الله عز وجل إن لم يؤمِنوا.
وهل أنذَروا قومَهم مِنْ قِبَل أنفُسهم أم جعلَهم رسولُ اللهُ رسُلاً إِلى قومهم؟ فيه قولان:
قال عطاء: كان دِينُ أولئك الجِنِّ اليهوديةَ فلذلك قالوا: {مِنْ بَعْدِ موسى}.
قوله تعالى: {أجيبوا داعيَ اللهِ} يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم. وهذا يدُلُّ على أنه أُرسِلَ إِلى الجن والإِنس.
قوله تعالى: {يَغْفِرْ لكمِ مِنْ ذُنوبكم} {مِنْ} هاهنا صلة.
قوله تعالى: {فليس بمُعْجِزٍ في الأرض} أي: لا يُعْجِزُ اللهَ تعالى {وليس له مِنْ دونِه أولياءُ} أي: أنصار يمنعونه من عذاب الله تعالى {أولئك} الذين لا يجيبون الرُّسل {في ضلالٍ مُبينٍ}.


ثم احتج على إحياء الموتى بقوله: {أَوَلَمْ َيَروْا...} إِلى آخر الآية. والرُّؤية هاهنا بمعنى العِلْم.
{ولَمْ يَعْيَ} أي: لم يَعْجَزْ عن ذلك؛ يقال: عَيَّ فلانٌ بأمره، إِذا لم يَهتد له ولم يَقدر عليه. قال الزجاج: يقال عَيِيتُ بالأمر، إِذا لم تعرف وجهه، وأعيَيْتُ، إِذا تعبتَ.
قوله تعالى: {بقادرٍ} قال أبو عبيدة والأخفش: الباء زائدة مؤكِّدة. وقال الفراء: العرب تُدخل الباءَ مع الجحد، مثل قولك ما أظُنُّك بقائم، وهذا قول الكسائي، والزجاج. وقرأ يعقوب: {يَقْدْرُ} بياء مفتوحة مكان الباء وسكون القاف ورفع الراء من غير ألف. وما بعد هذا ظاهر إِلى قوله: {كما صَبَرَ أُولُوا العَزْم} أي: ذَوو الحَزْم والصَّبْر؛ وفيهم عشرة أقوال:
أحدها: أنهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، صلى الله عليهم وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، وعطاء الخراساني، وابن السائب.
والثاني: نوح، وهود، وإبراهيم، ومحمد، صلى الله عليهم وسلم، قاله أبو العالية الرياحي.
والثالث: أنهم الذين لم تُصِبْهم فتنةٌ من الأنبياء، قاله الحسن.
والرابع: أنهم العرب من الأنبياء، قاله مجاهد والشعبي.
والخامس: أنهم إبراهيم، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى، ومحمد، صلى الله عليهم وسلم، قاله السدي.
والسادس: أن منهم إِسماعيل، ويعقوب، وأيُّوب، وليس منهم آدم، ولا يونس، ولا سليمان، قاله ابن جريج.
والسابع: أنهم الذين أُمروا بالجهاد والقتال، قاله ابن السائب، وحكي عن السدي.
والثامن: أنهم جميع الرُّسل، فإن الله لم يَبْعَثْ رسولاً إِلاّ كان من أُولي العزم، قاله ابن زيد، واختاره ابن الأنباري، وقال: {مِنْ} دخلتْ للتجنيس لا للتبعيض، كما تقول: قد رأيتُ الثياب من الخَزِّ والجِباب من القَزِّ.
والتاسع: أنهم الأنبياء الثمانية عشر المذكورون في سورة [الأنعام: 83 86]، قاله الحسين بن الفضل.
والعاشر: أنهم جميع الأنبياء إِلاّ يونس، حكاه الثعلبي.
قوله تعالى: {ولا تَسْتَعْجِلْ لهم} يعني العذاب قال بعض المفسرين: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم ضَجِر بعض الضَّجَر، وأحبَّ أن ينزل العذاب بمن أبى من قومه، فأُمر بالصَّبر.
قوله تعالى: {كأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدونَ} أي: من العذاب {لَمْ يَلْبَثُوا} في الدنيا {إِلاّ ساعةً مِنْ نَهارٍ} لأن ما مضى كأنه لم يكن وإن كان طويلاً. وقيل: لأن مقدار مَكْثهم في الدُّنيا قليلٌ في جَنْبِ مَكْثهم في عذاب الآخرة. وهاهنا تم الكلام. ثم قال: {بلاغٌ} أي: هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغٌ عن الله إِليكم.
وفي معنى وَصْفِ القرآنِ بالبلاغ قولان:
أحدهما: أن البلاغ بمعنى التبليغ.
والثاني: أن معناه: الكفاية، فيكون المعنى: ما أخبرناهم به لهم فيه كفايةٌ وغِنىً.
وذكر ابن جرير وجهاً آخر، وهو أن المعنى: لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعةً من نهار، ذلك لُبْث بلاغ، أي: ذلك بلاغ لهم في الدنيا إِلى آجالهم، ثُمَّ حُذفتْ ذلك لُبْث اكتفاءً بدلالة ما ذُكِر في الكلام عليها.
وقرأ أبو العالية، وأبو عمران: {بَلِّغْ} بكسر اللام وتشديدها وسكون الغين من غير ألف.
قوله تعالى: {فهل يُهْلَكُ} وقرأ أبو رزين، وأبو المتوكل، وابن محيصن: {يَهْلِكُ} بفتح الياء وكسر اللام، أي: عند رؤية العذاب {إلاّ القَوْمُ الفاسقونَ} الخارجون عن أمر الله عز وجل.

1 | 2 | 3